قراءة في كتاب صعودها ومحاولات احتوائها
[ad_1]
جعلت حماس من قطاع غزّة، قطعة جغرافيّة متحدّية للاحتلال وحصاره، بعد حكمها له أكثر من عقد ونصف العقد، وهذا ما يبيّنه بقعوني في فصول كتابه الّتي تناولت حصار الحركة والقطاع معًا…
كلّ ما كان استنتجه كثير منّا في السنوات الأخيرة، عن تحوّلات حركة حماس في غزّة لناحية “احتوائها وإخمادها أو تقليم أظافرها” وكلّ تلك الأقوال الّتي كنّا نقولها على شكل مقولات وخلاصات سياسيّة عن الحركة، كان قد كتبه طارق بقعوني في كتابه “حماس: صعود المقاومة الفلسطينيّة ومحاولات الاحتواء”. كان الكتاب قد نشر بالإنجليزيّة في سنة 2018 وترجم إلى العربيّة مؤخّرًا، وصدر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، وذلك في ظلّ حرب الإبادة الّتي لا تزال دائرة على قطاع غزّة عمومًا وحركة حماس خصوصًا، ممّا أعطى للكتاب أهمّيّة على أهمّيّته في قراءته لتاريخ الحركة وتحوّلاتها في ظلّ سعي جيش الاحتلال للقضاء عليها.
كانت عمليّة “السهم الواقي” الّتي شنّها جيش الاحتلال في أيّار/مايو 2023 ضدّ حركة الجهاد الإسلاميّ في غزّة وتحييده حركة حماس منها، قد عزّزت قناعة لدينا وقتها بأنّ حماس “لن تخوض وحدها حربًا ضدّ إسرائيل إلّا إذا كانت حربًا إقليميّة”. غير أنّ الطوفان الّذي تلا السهم الواقي بعد خمسة أشهر بالضبط من هذا الأخير في صباح يوم السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر كان كفيلًا بجرف وكافيًا لنسف كلّ قناعة استعجلت عن وعلى حماس ودورها. إذ يقول بقعوني في الفصل الختاميّ من كتابه: “وأدّى احتواء حماس على امتداد عقد من الزمن إلى مأسسة عمليّة إخماد بالتدريج، ما زالت جارية، لكنّها ليست حاسمة”. ولم تكن حاسمة يستدرك صاحب الكتّاب على مقولته باحتواء الحركة بنزع صفة الحسم عن ذلك المسار الّذي أرادت فيه إسرائيل ومعها النظامين الإقليميّ والعالميّ لتطويع حركة حماس وترويضها، وفي ذلك تكمن أهمّيّة الكتاب في رصد ذلك المسار.
من النفق إلى جزّ العشب
يحيل النفق اليوم، إلى تلك الشبكة من الأنفاق الّتي تمدّدت تحفّ رمل قطاع غزّة، حفرها الغزيّون في العقدين الأخيرين بأظفارهم تحايلًا على حصارهم ومحاولة تجويعهم أوّلًا، ثمّ الأنفاق بوصفها استراتيجيّة مواجهة دأبت حماس وباقي الفصائل من خلالها على تطويع جغرافيّة القطاع لصالح الفعل العسكريّ المقاوم للاحتلال وحروب حصاره على غزّة. غير أنّ الّذي نعنيه بالنفق هنا، هو استعارة عن ذلك الوضع المأزوم الّذي ولدت فيه حماس منذ الإعلان عن تأسيسها في ثمانينيّات القرن الماضي، إذ ظلّت حماس تواجه على مدار أكثر من ثلاثة عقود الأزمة تلو الأخرى، إلى حدّ درّبت فيه الحركة نفسها على التنفّس مخنوقة بالتحدّيات الّتي ما انفكّت تقبض على عنقها. وهذا ما يرصده بقعوني في فصول كتابه متتبّعًا سير تلك التحدّيات الّتي واجهتها حماس منذ الإعلان عنها كحركة منظّمة في اليوم التالي على بدء الانتفاضة الأولى في كانون الأوّل/ديسمبر 1987، من بيت مؤسّسها الشهيد الشيخ أحمد ياسين، حيث لم تكن يومها الحركة بعد تحمّل اسمها الّذي صارت تعرف به “حماس”.
من الانتفاضة الأولى، وإعلان إسرائيل حماس منظّمة “إرهابيّة” على أثر خطفها جنديّين إسرائيليّين وقتلهما مطلع سنة 1989، إلى ما أسفرت عنه الانتفاضة من نزوع نحو التسوية وتوقيع اتّفاقيّة أوسلو وإقامة السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في سنة 1993-1994 حيث تنطعت حماس في حينه بوصفها أبرز فصيل معارض للاتّفاق والسلطة معًا، مرورًا بتشكّل ملامح فشل أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية، الّتي لم يكن لحماس يد في اندلاعها، إنّما التحقت الحركة فيها بعد أن أدركت بأنّ الانتفاضة أكبر وأكثر من مجرّد تكتيك أراده الرئيس عرفات لتحسين شروط التفاوض، إلى فكّ ارتباط إسرائيل بغزّة سنة 2005 الّذي أسّس لفكرة تحرير القطاع وحصاره في الوقت نفسه.
ثمّ إلى ما بعد الانتفاضة الثانية ومرحلة ما بعد عرفات، وقرار حركة حماس الانخراط في انتخابات المجالس البلديّة وفوزها الساحق في انتخابات المجلس التشريعيّ في مطلع سنة 2006 الأمر الّذي جعل حماس أمام تحدّ آخر متّصل بسؤال أن تحكم الحركة في ظلّ نظام حكم واقع تحت الاحتلال، أفرزته أوسلو واشتراطاته الوطنيّة والدوليّة الّذي عارضته حماس أصلًا من جانب، ومن جانب آخر، الحفاظ على مهمّتها الّتي ولدت حماس من أجلها كحركة مقاومة إسلاميّة، وقد أسرت حماس الجنديّ الإسرائيليّ شاليط من غلاف غزّة في حزيران/يونيو من نفس عام انتخابها الّذي لم ترحّب به بعض القوى الفلسطينيّة ولا إسرائيل ولا بعض الدول الإقليميّة العربيّة وكذلك الغربيّة. الأمر الّذي دفع في حينه إلى مأسسة الحصار حيث أعلنت إسرائيل قطاع غزّة “أرضًا معادية”، والانقسام الّذي اتّخذ منحى سياسيًّا فصائليًّا وجغرافيًّا ما بين الضفّة وغزّة، على أثر الاحتراب الحمساويّ – الفتحاويّ في القطاع، ما بين روايتين “الحسم أو الانقلاب” العسكريّين في أيّار/مايو 2007، ليغدو القطاع تحت حكم حماس، في واقع أصبح فيه مصير غزّة وحماس متداخلين بشكل لا عودة عنه يقول بقعوني متتبّعًا في كتابه سير تلك الأحداث والتحوّلات الّتي ترتّبت عليها.
كان عام 2007 فاصلًا لناحية مستقبل حركة حماس وقطاع غزّة ومصيرهما معًا، حيث شنّت إسرائيل في ظلّ حصارها المتواصل للقطاع عدّة حروب متقطّعة عليه، منذ عمليّة “الرصاص المصبوب”/معركة الفرقان في كانون الأوّل/ديسمبر 2008، مرورًا بعمليّة “عمود السحاب”/حجارة السجّيل في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 وصولًا إلى عمليّة “الجرف الصامد”/العصف المأكول في تمّوز/يوليو 2014. وذلك وفق ما أطلق عليه الإسرائيليّون سياسة “جزّ العشب” الّتي اقتضت الاستخدام الموسميّ للقوّة العسكريّة لتعطيل أيّ تنام لفصائل المقاومة في غزّة. وذلك في مقابل هدن متقطّعة ترتّب عليها تسهيلات لتحسين شروط الحصار دون إنهائه في محاولة لاحتواء الحركة وإخمادها بتعبير بقعوني، فيما الحركة فعليًّا طوال هذه المرحلة ما بين 2007 و2017 كانت قد طوّرت بنيتها العسكريّة في القطاع الّذي جعلت منه حاضنة بيئيّة واجتماعيّة للعمل العسكريّ المقاوم على عدّة مستويات أهمّها تحويل القطاع نقطة ارتكاز لإطلاق صواريخ المقاومة الّتي جعلت كامل مدن ومستوطنات إسرائيل الجنوبيّة تحت مرمى نيرانها. وهذا في الوقت الّذي كان يجري فيه تطويع الضفّة الغربيّة وتجريفها من كلّ إمكانيّة فعل مقاوم على مستوى التنظيمات والحواضن في ظلّ مسار سياسة التنسيق الأمنيّ.
عن حماس وعنّا
يقف كتاب بقعوني عند مرحلة ما بعد عام 2014 حتّى عام 2017 تناولها على شكل فصل ختاميّ، الأمر الّذي جعل قراءته لجدليّة تاريخ حركة حماس مبتورة أو غير مكتملة بتعبير أدقّ. إذ الأعوام الّتي تلت حرب عام 2014 مصيريّة لناحية التحوّلات الّتي طرأت على بنية الحركة من داخلها، وهذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ كتاب بقعوني يؤرّخ لسيرة التحدّيات الّتي واجهت الحركة وأحاطت بها من خارجها منذ نشأتها، دون التفاته إلى الديناميكيّات الداخليّة للحركة على مستوى التنظيم والقرار. خصوصًا بعد أن صارت الحركة منذ ما بعد عام 2007 تتّخذ شكلها الغزيّ تدريجيًّا على مستوى التنظيم السياسيّ والعسكريّ من جانب، والقاعدة الاجتماعيّة من جانب آخر، إلى أن صارت الحركة بعد عام 2017 غزيّة بامتياز، تطابقت فيه الحركة تنظيميًّا ووجوديًّا مع الرقعة الّتي تحكمها أيّ القطاع تطابقًا تامًّا، بعد ضرب الحركة، وبناها التنظيميّة في الضفّة الغربيّة. كما لم يعد لمكتب الحركة السياسيّ في الخارج كبير أثّر على صنع القرار الحمساويّ، الّذي بات غزيًّا بامتياز. فالدور الحاليّ لمكتب الحركة في الخارج، يقتصر على الجانب الدبلوماسيّ أكثر ممّا له دور سياسيّ أو عسكريّ، وقد جرى تفعيله في ظلّ الحرب الحاليّة الدائرة على الحركة والقطاع معًا.
إذا كان بقعوني، قد نبّه في الصفحات الأولى من كتابه إلى طبيعة حماس، مفترضًا بأنّها “منظّمة مركّبة ولا مركزيّة وذات أوجه متعدّدة” فهي فرضيّة صحيحة، لكنّها محدودة زمنيًّا بحدود المسافة الزمنيّة الّتي يغطّيها كتابه. بينما يبقى إغفال الجانب الداخليّ المتّصل بالبنية التنظيميّة للحركة وعلاقة السياسيّ بالعسكريّ في قرارها الّذي بدأ يشهد تحوّلًا منذ ما بعد حرب 2014 إغفالًا لفهم سياسة حماس تجاه التحدّيات الّتي أحاطت وأحاقت بها، إذ صارت الحركة أكثر مركزيّة في ظلّ غزيّتها وحصارها، ممّا كانت عليه من قبل، كما صارت المسافة ما بين السياسيّ والعسكريّ فيها على مستوى القرار أضيق ممّا كان قبل العقد الأخير. بالتالي، فالقول بـ “احتواء الحركة وإخمادها” على مدار العقد الأخير – وهو قول قاله كثيرون منّا لا بقعوني وحده في كتابه – فيه استعجال ينمّ عن قصور في فهم ديناميكيّات الحركة من داخلها، أثبته الطوفان لنا مؤخّرًا. كما أنّ فهم هذه الديناميكيّات وشرحها من خارج الحركة ليس بالأمر اليسير بالطبع، كي لا نستعجل بدورنا على بقعوني كما استعجلنا نحن وهو على الحركة بمقولة “احتوائها”.
لقد جعلت حماس من قطاع غزّة، قطعة جغرافيّة متحدّية للاحتلال وحصاره، بعد حكمها له أكثر من عقد ونصف العقد، وهذا ما يبيّنه بقعوني في فصول كتابه الّتي تناولت حصار الحركة والقطاع معًا. غير أنّ التأثير في بعضهما كان جدليًّا، أي في الوقت الّذي كانت تعيد فيه حماس إنتاج قطاع غزّة وفق رؤيتها السياسيّة والعسكريّة، كان القطاع المحاصر في الوقت نفسه يعيد صناعة الحمساويّ والغزيّ عمومًا، في ظلّ حصاره الممتدّ من عام 2007. إذ أنتج الحصار جيله الغزيّ، الّذي يبدو أنّنا لم نعرف عنه الكثير، إلى أن كان الطوفان في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي.
عمومًا، ليست أهمّيّة كتاب “حماس: صعود المقاومة الفلسطينيّة ومحاولات الاحتواء” في كونه دعوة لنقد مقولة كاتبه، بقدر ما أنّ الكتاب بذاته مناسبة لمراجعة ما فكّر واعتقد به كثيرون منّا غير بقعوني، فالكتاب في حقيقته، يؤرّخ لحماس وفهمنا لها معًا.
[ad_2]
Source link