“أين أنت أيها الجنرال لقد اشتقنا إليك”

0 4

[ad_1]

لا أذكر اندفاعا انتابني من قبل لزيارة دولة ما، مثل حماسي لرؤية كوريا الشمالية، ولم يخب ظني في ذلك .

ما أن بدأنا نهبط في أجواء بيونغ يانغ حتى رأينا المطار وهو شبه خالٍ سوى من بعض الطائرات الروسية التي وصلت للتحضير لزيارة الرئيس بوتين، حينها أدركت أن كوريا الشمالية لا تزال دولة مغلقة.
الزعيم كيم جونغ أون أعد العدة والعتاد لاستقبال ضيفه الروسي على أعلى المستويات وخاصة أنه مضى أربعة وعشرون عامًا على الزيارة الأولى للرئيس بوتين لهذه الدولة، الطريق نحو المدينة خالٍ من كل شيء باستثناء الأعلام الروسية والكورية والصور الضخمة للرئيس بوتين.
“اسمي جو، وسأكون برفقتكم طيلة فترة إقامتكم في بلادنا”، هكذا يُعرِّف عن نفسه مرافقنا الذي يتحدث الروسية بطلاقة وهو الذي لم يزر روسيا من قبل، لكن يبدو أن معرفة لغة الأصدقاء في كوريا تبقى أولوية للزعيم كيم.
ينهال الصحفيون على جو بالأسئلة من كل حدب وصوب، عن سبب غياب المارة في الشوارع وغياب السيارات باستثناء القليل منها يجيبني جو بعد تململ، بأن أبناء جلدته لا يرغبون بشراء السيارات لكنها متاحة في البلاد، ويتابع بأننا غدًا سنرى الشعب الكوري وعظمته.

تستقبلنا العاصمة بيونغ يانغ بعمارات حديثة تتعارض مع الصورة النمطية في الذاكرة – يقول جو بأن المواطنين يحصلون على الشقق السكنية بشكل مجاني من الدولة، كما الشارات المعلقة على صدور الجميع تقريبًا وتحمل صور كيم الجد وكيم الأب وتعتبر شرفًا لحامليها يمنحها الحزب الشيوعي الكوري.
في الشارع عدد كبير من طلبة المدارس، يوحدهم ربطة العنق الحمراء وتبين أن العام الدراسي بخلاف جميع الدول يبدأ في شهر أبريل/ نيسان.
فندق كوريو وسط المدينة، لا يختلف بجماله عن الفنادق في أي دولة أخرى سوى باللمسة الكورية وصور زعماء الدولة، يمكنك استخدام شبكة الإنترنت البطيئة مقابل عشرة دولارات في الساعة، لكن ذلك أفضل من لا شيء.

على الطابق السادس عشر تبين أن لدي جناحًا يتألف من غرفتين إحداهما للاستقبال والأخرى للنوم، طابع النظافة واضح على كل شيء لكن العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية منذ سنوات طويلة، تركت أثرها على عدم إجراء أي إصلاحات في الفندق ذي الأربعين طابقًا.

في مطعم الفندق، أنواع كثيرة من الأطباق أكثرها بحرية وبنكهة كورية، اكتفيت بخبز وأرز مع لحم دجاج سُلق بجلده! وبوظة تبين لي فيما بعد أنها أشهى ما تذوقته في بلاد الرفيق كيم.
في المتجر الملاصق من الفندق يوجد كل شيء وهو على عكس ما توقعت ولا أعرف ما إن كانت جميع المتاجر في المدينة على نفس الشاكلة، أم أن الرفيق كيم أيضًا أراد مفاجأة ضيوفه. وفرة كبيرة من المواد الغذائية المتنوعة والحلويات والمشروبات والألبسة وشتى أنواع مستحضرات التجميل، وغيرها الكثير الكثير، الأسعار رخيصة مقارنة بالجودة، وجميع البضائع محلية الصنع، وهي تكشف تطورًا ملحوظًا شهدته كوريا الشمالية في السنوات الأخيرة، وفشل سياسة العقوبات والحصار الغربي عليها. اشتريت بعض الأشياء لأطفالي وزملاء العمل الذين قالوا لي : “لا عودة لك من دون هدايا تذكارية!”.

لم يبق لدي من القوة شيء سوى الاسترخاء بعد سفر طويل وخاصة أن الساعة تشير إلى الثانية عشرة منتصف الليل، لكن خيار القيادة الكورية في هذا الوقت كان غير ذلك. تصدح موسيقى لم أعهدها من قبل وكأنها من أفلام الخيال ، اسمها “أين أنت أيها الجنرال لقد اشتقنا إليك” بدت لي للوهلة الأولى كئيبة ولا تبعث على الأمل. لكن سكان بيونغ يانغ اعتادوا عليها عند ذهابهم من وإلى أعمالهم وعند النوم والاستيقاظ، ترافقهم منذ سنوات طويلة، وها أنا بعد معاناة طويلة غفوت أيضًا كما الجميع.

مرافقونا، على رأسهم جو، يسألوني عن اللغة التي أسجل بها تقاريري، أشرح لهم أنها العربية وأنني من فلسطين، فيعبرون عن إعجابهم وتضامنهم مع شعبنا، يقول جو أنهم لو لم يكونوا أقوياء كما هم عليه الآن، لكان حالهم كحال الفلسطينيين، وخاصة أن بيونغ يانغ لا تبعد عن الحدود الكورية الجنوبية سوى مئة وخمسين كيلومترًا حيث القواعد العسكرية الأمريكية وهو ما يجعلها تشعر بخطر وجودي دائم.

في صباح اليوم التالي ننطلق إلى ساحة كيم إيل سونغ جد كيم الحالي ومؤسس كوريا الشمالية، هي الساحة التي اعتدنا مشاهدتها عبر التلفزيون في العروض العسكرية وهي الأكبر في البلاد ويمكنها أن تتسع لمئة ألف شخص. كبارًا وصغارًا يحملون الأعلام الروسية والكورية، اخترت مكانًا هو الأقرب للزعماء بجانب سيارة مرسيدس مكشوفة السقف سيركبها الزعيمان عند الوقت.

نحو خمسين ألف شخص يجتمعون لحضور مراسم الاستقبال الرسمي للرئيس بوتين الذي وصل نحو الساعة الثالثة فجرًا وكان كيم جونغ في استقباله في المطار.

بعد دقائق قليلة يخرج الرئيس كيم من خلف المنصة المغطاة بستار ضخم أحمر، تضيف هالة من العظمة على الاحتفال، ليصل بعدها الرئيس الروسي على متن سيارته من طراز أوروس، في موكب كبير من سيارات كورية شمالية من نوع ليكزس.

يحاول الرئيس الكوري إبهار ضيوفه باستقبال مهيب، وينجح في ذلك: ألعاب نارية، وطلقات مدفعية، وعرض عسكري، وعشرات آلاف المواطنين يؤدون حركات احتفالية على درجة عالية من التنظيم، تدربوا عليها لأكثر من ثلاثة أشهر! كل ذلك يظهر مدى الاهتمام الذي توليه بيونغ يانغ لعلاقاتها مع موسكو.

من هناك، نتوجه إلى قصر شمس كومسوسان، وهو مكان يصل إلى درجة القدسية بالنسبة للكوريين، ففيه ضريحان لكيم إيل سونغ وكيم جونغ إيل. على جانبي الطريق، أشاهد مئات الآلاف من المواطنين الذين ظننت في البداية أنهم من المشاركين في الاحتفال ليتضح بعد ذلك أن عددهم يفوق ذلك، فهم يقفون لتحية الرئيسَين عند مرورهم نحو القصر على طول الطريق الذي يمتد من وسط بيونغ يانغ لأكثر من عشرة كيلومترات.

لم أر أي شخص بوزن زائد؛ من الواضح أن المواطنين لا تواجههم مشاكل المجتمع العصري من السمنة الزائدة، قد يكون المشي الكثير أو الرياضة يساعدهم في ذلك!

نصل إلى القصر المبني على الطراز الكوري، والمحاط بحدائق غناء، تتخللها بحيرة تعج بأسماك متنوعة صغيرة وكبيرة. هنا نحصل على إمكانية للولوج إلى إنترنت سريع للمرة الأولى!

تجري اللقاءات والاجتماعات بين الرئيسَين والوفود، ويتم التوقيع على اتفاق شراكة استراتيجية شاملة ترسم مرحلة جديدة من العلاقات، وتصنع واقعًا سياسيًا جديدًا في المنطقة. إعلان تقديم المساعدة المتبادلة في حال تعرض أحد الطرفين إلى العدوان هو الأبرز ضمن البيانات. يوم عمل مكثف بالعديد من الاتصالات المباشرة مع موسكو يقارب على الانتهاء. نتوجه إلى المطار، وما أشد دهشتي عندما رأيت جحافل من المواطنين ما زالوا على طول الطريق نحو المطار بانتظار توديع الرئيس بوتين، هيئ لي أن كل أهل المدينة نزلوا إلى الشارع دون استثناء!

خلال يومين قضيتهما هناك، كانت بيونغ يانغ كلها تتلألأ في الليل من الإضاءة على عكس الصورة النمطية. الإنارة في الشوارع والأضواء مضاءة في كل شباك، حتى في تلك الشقق التي تبدو خالية من السكان!

من الواضح أن الكوريين بذلوا كل ما في وسعهم ليظهروا أعلى درجات الاحترام والالتزام بالعلاقات الودية مع موسكو.

تختلط علي المشاعر بما شاهدتُه خلال إقامتي في بيونغ يانغ. في البداية، حسدتهم على حياتهم وانغلاقهم عن العالم الخارجي، فلم تبقَ دول مثلها تحافظ على خصوصية كاملة في تقاليدها وطريقة عيشها، فلا يعانون من مشاكل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وآثار التغلغل الغربي كسائر الحضارات الأخرى. مجتمع ما زال بسيطًا لكنه في الوقت ذاته حديث، ينتقي ما يريد من التطور التقني والتكنولوجي، يختار الصالح ويترك الطالح وفقًا لأهواء القيادة. تبادر إلى ذهني أكثر من مرة خلال الزيارة سؤال: هل كنت سأرغب في العيش هنا؟ هل سأريد الاستماع إلى نفس الموسيقى يوميًا؟ اعترفت في النهاية لنفسي أن الجواب حتمًا لا، لكني مع ذلك أحسدهم!

تقلع طائرة الرئيس بوتين وأيادي مودعيه تلوح دون انقطاع، وعلى رأسهم كيم جونغ أون الذي غادر المطار وسط تصفيق غير منقطع يرافقه أنغام أغنية “أين أنت أيها الجنرال، لقد اشتقنا إليك”. يستر الظلام من جديد على بيونغ يانغ ويعود الهدوء إليها بعد يومين سجّلا في تاريخ كوريا الشمالية “لقد زارهم بوتين من جديد”.

مكسيم الطوري – بيونغ يانغ

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب



[ad_2]

Source link