إمبراطورية المال الهولندية.. عصر ذهبي وماض استعماري مظلم | سياسة

0 4

[ad_1]

من سواحل جزر الهند الشرقية إلى شواطئ الكاريبي الذهبية، ومن العمق الأفريقي النابض إلى القارة الجديدة، كانت السفن الهولندية تبحر ذهابا وإيابا في مهمة استعمارية امتدت لنحو 4 قرون، شارك خلالها الهولنديون في رسم ملامح العالم الحديث مع غيرهم من الدول.

بدأ الاستعمار الهولندي رسميا في أوائل القرن الـ17 بتأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1602 وشركة الهند الغربية الهولندية عام 1621 واستمر حتى أواخر القرن الـ20 مع فترات من التوسع والانكماش.

وخلال القرن الـ17، توسعت الإمبراطورية الهولندية بسرعة، ففي جنوب شرق آسيا فرض الهولنديون سيطرتهم على جاوا، وجزر التوابل (جزر الملوك)، وأجزاء من سومطرة وبورنيو أجزاء من المناطق ماليزيا وتايوان وسريلانكا، وسيلان، وأسسوا مستعمرات في منطقة البحر الكاريبي، مثل أروبا وسورينام، وسيطروا لفترة على أجزاء من البرازيل، كما أنشؤوا مستعمرة نيو نذرلاند في أميركا الشمالية، التي شملت أجزاء من ولايات نيويورك ونيوجيرسي وديلاوير وكونيتيكت الحالية.

وفي أفريقيا، أسس الهولنديون مستعمرة كيب في جنوب أفريقيا الحالية، والتي أصبحت محطة إمداد حيوية للسفن المتجهة إلى آسيا ومنها، بالإضافة لساحل الذهب الهولندي (غانا). كما أنشؤوا عدة مراكز تجارية على طول ساحل غرب أفريقيا، بالإضافة لمراكز تجارية في إيران ومناطق أخرى في العالم.

Magasins de la Compagnie des Indes à Pondichéry.jpg
مبان لشركة الهند الشرقية في بونديشيري الهندية أواخر القرن الـ18 (مواقع التواصل)

العمود الفقري

ولعبت شركتا الهند الشرقية والغربية (الهولنديتان) أدوارا محورية في الاستعمار الهولندي، فقد احتكرت الشركة الشرقية التجارة مع آسيا، وأنشأت شبكة من المراكز التجارية والحصون في جميع أنحاء المحيط الهندي، وبالمثل كان الهدف من شركة الهند الغربية إنشاء مستعمرات هولندية في الأميركيتين وأفريقيا، ورغم أنها أقل نجاحا من الشرقية من حيث الاستحواذ على الأراضي، فإنها لعبت دورا حاسما في استعمار أميركا الشمالية وأجزاء من أفريقيا.

وكانت شركة الهند الشرقية من أوائل الشركات المتعددة الجنسيات في العالم وأكبر جهة توظيف في عصرها، إذ امتلكت قوة بحرية هائلة. وبحلول عام 1670، بلغ إجمالي حجم الشحن البحري التجاري الهولندي نحو نصف الإجمالي الأوروبي.

وفي نهاية القرن الـ18، بلغ العدد الإجمالي تقريبا للسكان تحت السيطرة المباشرة للوكلاء الاستعماريين الهولنديين نحو 10 ملايين شخص، وكان محركهم الاستعماري الرئيسي هو المكاسب الاقتصادية، ومن خلاله يمكن فهم السلوك الاستعماري الهولندي عموما، ولخدمة ذلك قاموا بإنشاء مواقع ومستعمرات إستراتيجية في مختلف البلاد.

واعتمد الاقتصاد بشكل كبير على تجارة التوابل “ذهب جزر الهند”، والسكر “الذهب الأبيض”، و جوزة الطيب “الذهب البني”، إضافة للبن الذي تمكن الهولنديون من تهريبه من السلطة العثمانية لزراعته في الهند، وحصدوا أول محصول من القهوة في جاوا (إندونيسيا).

وبدورها، تطلبت المشاريع الزراعية العمالة الأفريقية، فنشطت تجارة العبيد، في البداية تردد الهولنديون البروتستانت في الدخول لتلك التجارة، إذ أشار أحد القساوسة إلى ذلك على أنه “انحراف بابوي” ارتكبه الإسبان والبرتغاليون، ولكن بدأت المواقف تتغير مع قيام الاستعمار بتوسيع عملياته، وقد أدى ذلك إلى تحول في الرسالة التي تنشرها الكنيسة، فبحثوا عن قصص في الكتاب المقدس لإضفاء الشرعية على العبودية.

ماض استعماري مظلم

وصحيح أن القرن الـ17 عُرف -حسبما يشير إليه المؤرخون- بـ”العصر الذهبي الهولندي”، إذ تجمعت كميات من الثروات غير المسبوقة في الجمهورية الهولندية، وازدهرت الحياة الفكرية في مدن مثل أمستردام، ورسم فنانون مثل رامبرانت فان راين روائع فنية، لكن وراء ذلك حقيقة مظلمة، فقد حقق عديد ثرواتهم من خلال استغلال واستعباد شعوب أخرى.

فعلى مدى أكثر من 300 عام، استعبد التجار الهولنديون ملايين الأشخاص حول العالم ونقلوهم قسرا، فلقد تم اختطاف البالغين والأطفال من مناطق مختلفة في أفريقيا بواسطة تجار العبيد في ظروف مروعة ونقلهم إلى المستعمرات الهولندية، حيث أُجبروا على العمل عبيدا في المزارع، ولم تُستثن الشعوب الأصلية في المستعمرات الهولندية من الاستعباد أيضا.

وكان الأثر الاقتصادي لتجارة الرقيق في المحيط الأطلسي على الاقتصاد الهولندي كبيرا، ففي عام 1770، شكلت الأنشطة الاقتصادية القائمة على العبيد 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي للجمهورية الهولندية وبلغت نسبة من الواردات والصادرات من السلع الهولندية التي ينتجها العبيد 19% على أقل تقدير.

وفرض الهولنديون ضريبة الأرض، وكانوا يقررون نوع المحاصيل وكميتها، وأوجبوا على الفلاحين الجاويين تسليم خُمس محاصيلهم إلى الهولنديين مقابل تعويض نقدي ثابت وضئيل لا يرتبط بقيمة المحصول في السوق العالمية، وقد بلغ إجمالي دخل الدولة الهولندية من المستعمرة الجاوية في بعض السنوات نحو 33%.

وارتفع معدل الوفيات في المزارع، وانتشرت الأمراض المعدية بسبب المناخ الاستوائي إلى جانب العمل الشاق واللاإنساني، وفي الحالات التي كان فيها علاج العبد المصاب يكلف السيد كثيرا من المال كان يتخلى عنه ليموت أو يطلق النار عليه، وفي الحالات الميؤوس منها كانوا أحيانا يؤخذون إلى الغابة ليتم اصطيادهم من قبل أسيادهم وأصدقائهم من باب الصيد الترفيهي. حملت هذه المزارع أسماء رومانسية مثل مدينة الورود “روسنبيرغ”، والسلام الطيب “غود فريد”.

أما العمل في المطحنة أو المطبخ، فكان أكثر خطورة، ويعد إرسال العبيد للعمل فيها نوعا من العقاب، إذ كانوا يسقطون على عجلة المطحنة أو في القدور التي يُغلى فيها السكر، بالإضافة للعمل في حظائر مغبرة وشرب المياه الملوثة، وانتشرت أمراض الرئة التي زادت من أعداد الوفيات بين العبيد.

Van Riebeck Entertains the Hottentots', 1909. In 1651 Van Riebeck (1619-1677), volunteered to undertake the command of the initial Dutch settlement in the future South Africa. From Romance of Empire - South Africa by Ian D. Colwin. [T. C. & E. C. Jack , London, 1909] Artist Joseph Ratcliffe Skelton. (Photo by Print Collector/Getty Images)
الشعوب الأصلية في المستعمرات الهولندية تعرضت للاستعباد (غيتي)

مجازر إندونيسيا

وفي عام 1621 خلال الاستعمار الهولندي لجزر باندا في إندونيسيا، رأى جان بيترزون كوين، المسؤول عن عمليات شركة الهند الشرقية الهولندية أن تجارة جوزة الطيب ستكون أسهل إذا تمكن الهولنديون من إخلاء سكان باندا على أن يحل محلهم مستوطنون مرتبطون بالشركة، فقام جنود كوين باستعباد جميع سكان الجزر البالغ عددهم 15 ألف نسمة تقريبا، وقتلوا منهم العديد وطردوا آخرين، وبحلول نهاية الحملة بقي فقط نحو ألف إلى ألفين من سكان الجزر.

وفي أواخر القرن الـ19، كلف الغزو الاستعماري الهولندي لسلطنة آتشيه في سومطرة أرواح عشرات الآلاف من سكانها، وتشريد عشرات الآلاف الآخرين، وأدى إلى تدمير مئات القرى. وفي عام 1904، أصبحت القوات الهولندية مسؤولة عن قتل 5621 مدنيا إندونيسيا في قرية كوتا ريه، وفق ما ذكر في بعض السجلات.

ثم في عام 1945 بعد استسلام قوات الاحتلال اليابانية وإعلان استقلال إندونيسيا، حاول الهولنديون استعادة السيطرة على جاكرتا، استمر القتال بين البلدين منذ عام 1945 إلى 1949 تحت مسمى “عمليات الشرطة” للإشارة إلى أنهم يعتبرون القتال في إندونيسيا مسألة داخلية تتعلق بالقانون والنظام، أما عمليات القتل ضد الثائرين، فكان ينظر إليها ويعبر عنها لوقت طويل في النقاشات العامة على أنها “تجاوزات” كحوادث عرضية ضمن العمل العسكري المشروع، مما أسفر عن مقتل 150 ألف إندونيسي و5 آلاف هولندي.

وتم قمع حركات المعارضة والتمرد عبر اتباع سياسة الأرض المحروقة، وعلى مدى نحو 3 أشهر من أواخر عام 1946 إلى أوائل عام 1947، قتلت القوات الهولندية بقيادة الكابتن ريموند فيسترلينغ الآلاف من المدنيين في سولاويزي الجنوبية.

وفي التاسع من ديسمبر/كانون الأول 1947، دخلت القوات الهولندية قرية رواوجاده الجاوية الغربية (التي تسمى الآن بالونغساري) لتطهير المنطقة، تتراوح التقارير عن أعداد الضحايا بين 150 (الرقم الهولندي) و431 (العدد الذي تعلنه السلطات الإندونيسية)، جذبت هذه المذبحة اهتماما كبيرا، إذ أجرت لجنة الأمم المتحدة تحقيقا خلص إلى أن الإجراء كان “متعمدا وقاسيا”.

وفي عام 2017 تداولت الصحف الهولندية مقالا بحثيا أشار إلى أن العدد الإجمالي للضحايا الإندونيسيين القتلى بين عامي 1945- 1949، حسبما ورد في التقارير العسكرية الهولندية، يصل إلى 97 ألفا و421 على أقل تقدير، وفي المجمل فإن أعداد ضحايا الاستعمار الهولندي تختلف تقديراتها بشكل كبير بين الجانبين.

“ديون الشرف”.. ومواجهة الماضي

بحلول مطلع القرن الـ20، وتحت تأثير الانتقادات الداخلية والمشهد السياسي، طور الاستعمار الهولندي فكرته الخاصة “السياسة الأخلاقية”، ومن أهم الداعين لها كونراد ثيودور فان، العضو الديمقراطي الليبرالي في برلمان هولندا، الذي قال إن الهولنديين كانوا يستنزفون الثروة من جزر الهند الشرقية، وبالتالي تكبدوا “دين الشرف” الذي ينبغي سداده، واقترح ديفينتر أن تتحول هولندا عن سياستها الصارمة إلى متابعة برنامج رعاية إيجابية، وفي عام 1901 بدأت المحاولة مع تغير الحكومة.

مثلت السياسة الأخلاقية الهولندية المقترحة تحولا إلى شكل أكثر أبوية من الاستعمار، تتألف أخلاقياتها من مزيج من الأعمال الخيرية المسيحية، ومشاعر التفوق المعبأة في خطاب التنمية ورفع مستوى الشعوب الأصلية، لكن يبدو أن 30 عاما من هذه السياسة في إندونيسيا لم تغير من الواقع المؤسف شيئا يذكر، وفق باحثين في الشأن.

واستغرق الأمر عقودا قبل أن يبدأ النقاش النقدي حول الماضي الاستعماري، يرجع البعض الأمر إلى أن مسؤولين هولنديين لم يكونوا يرغبون في الاعتذار، لأن ذلك يمكن أن يُسيء إلى المحاربين الهولنديين القدامى الذين خاطروا بحياتهم باسم بلدهم، بينما أشار البعض إلى وجود تهديدات حقيقية منعت فتح الملف، إضافة إلى ذلك لعب الخوف من العواقب المالية للاعتذار دورا مهما أيضا كما يرى آخرون.

وعام 2012، نشرت صحيفة دي فولكسكرانت الوطنية الهولندية أول صور يتم نشرها على الإطلاق لجنود هولنديين يطلقون النار بوحشية ويقتلون ضحايا إندونيسيين عزلا في مقبرة جماعية خلال حرب الاستقلال، كانت الصور صادمة لأمة تفتخر بأنها مستقيمة وإنسانية.

ولم تعتذر هولندا عما يتعلق بماضيها الاستعماري حتى عام 2011، عندما أطلقت 8 أرامل إندونيسيات وأحد الذكور دعوى قضائية ناجحة ضد الدولة الهولندية لإعدام شركائهم في قرية راواجيدي الجاوية في 1947، لكن الدولة الهولندية استأنفت محتجة بقانون التقادم، بعد ذلك رفضت محكمة لاهاي الابتدائية الاحتجاج، وأمرتها بدفع تعويضات. فتحت هذه القضية الباب لقضايا متلاحقة ضد الدولة الهولندية بسبب الجرائم المرتكبة خلال الفترة الاستعمارية.

أصبحت مسألة الفظائع الاستعمارية الهولندية أقل حساسية بعد أن غادر معظم الهولنديين المعنيين المسرح، وفي عام 2012 بعد وقت قصير من قضية راواجيدي دعت 3 مؤسسات بحثية إلى إجراء تحقيق تموله الحكومة في “الجوانب المثيرة للجدل من السلوك العسكري خلال الفترة من 1945 إلى 1949، وبعد 4 سنوات وافقت الحكومة على توفير أكثر من 4 ملايين يورو من التمويل للتحقيق.

وفي عام 2013، قدم السفير الهولندي في إندونيسيا أول اعتذار مهم، تناول فيه عمليات القتل الجماعي والعنف المفرط الذي ارتكبته القوات الهولندية خلال حرب الاستقلال الإندونيسية، وخلال زيارة رسمية مارس/آذار 2020، قدم الملك فيليم ألكساندر اعتذارا عن العنف الاستعماري في إندونيسيا عن الفترة (1945-1949).

وفي أثناء الزيارة، أصدر الملك بيان الاستقلال الإندونيسي، لكنه أثار ردود فعل وسخطا من بعض أعضاء الحكومة لعدم استشارتهم بمحتواه وتوقيته، إذ وصف عديد من المحاربين الهولنديين -خاصة قدامى المحاربين- الاعتذار بأنه “طعنة في الظهر”، وردوا بأنهم قاتلوا بضمير حي من أجل جزر الهند الشرقية الهولندية الاستعمارية وأن المتمردين الإندونيسيين ارتكبوا جرائم حرب “أسوأ بكثير”.

ومن جانبه، انتقد وزير الخارجية الإندونيسي السابق حسن ويراجودا الاعتذار بقوله “إذا كان الهولنديون صادقين وجديين حقا في تحقيق السلام مع تاريخهم المظلم في إندونيسيا، لكان عليهم الاعتذار عن استعمارهم على مدار 350 عاما، وليس لفترة وجيزة عندما حاولوا استعادة السيطرة على إندونيسيا بعد الحرب العالمية الثانية، وأن عليهم الاقتداء بألمانيا وبلجيكا بتقديم تعويضات”. في حين وُصف رد فعل الرئيس الإندونيسي بالهادئ والملتفت للمستقبل.

وبعد أن بقي ماضي هولندا الاستعماري، خصوصا الفترة 1945-1949، من المحرمات -حسب تعبير مؤرخين- فقد شهد العقد الماضي عددا متزايدا من المنشورات التي تعارض وجهة النظر المقبولة لماضي البلاد، ولا تزال المواقف الشعبية الهولندية بشأن الماضي الاستعماري والاعتذار عنه متفاوتة، فقد كشف استطلاع للرأي العام أجري في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أن 38% فقط من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع كانوا يؤيدون طلب المغفرة، مما يعكس تفاوتا كبيرا في وجهات النظر حول الماضي الاستعماري للبلاد.

[ad_2]

Source link