النأي عن القراءات التبسيطيّة شرط للتحوّل

0 2

[ad_1]

يرى كثيرون من الفلسطينيّين؛ محلّلين وناشطين وقادة نقديّين، أنّه إذا أردنا التقدّم إلى الأمام، فلا بدّ من الابتعاد عن القراءة التبسيطيّة للمشهد القتاليّ والسياسيّ والإنسانيّ الراهن. نحن أمام مشهد خطير ومركّب، وينطوي على جوانب متناقضة، بل شديدة التناقض، لا بدّ من تحديدها، حتّى يمكن مواجهة تبعاته والتجاوب مع اللحظة التاريخيّة ومستحقّاتها.

لقد بات واضحًا أنّ الصمود الأسطوريّ في قطاع غزّة، ليس كافيًا وحده لوصف المشهد. كما أنّ الكارثة الإنسانيّة المهولة المتواصلة الماثلة أمامنا ليست النتيجة الوحيدة للحدث التاريخيّ الكبير الّذي تشهده غزّة وفلسطين عمومًا، والممتدّة تفاعلاته إلى جميع أرجاء الكرة الأرضيّة. كلاهما يشكّلان وجهًا المشهد، ويتوقّف النجاح في قطف ثمار الصمود وسقوط السرديّة الصهيونيّة لصالح قضيّة العدالة على قدرة الفلسطينيّين على إدارة المعركة السياسيّة بنجاعة، وهذا يتطلّب فاعلًا سياسيًّا شعبيًّا بديلًا يبنى من تحت.

وتنتصب تحدّيات مهولة أمام حركة المقاومة الفلسطينيّة، سواء على مستوى مواصلة التصدّي لمخطّط التهجير، أو في ما يتعلّق بالتعامل مع نتائج ما بعد الحرب، الإنسانيّة والحياتيّة، أو بخصوص الإدارة السياسيّة للمعركة. حتّى الآن يمسك بفكرة اليوم التالي، تلك القوى المشاركة والمتواطئة مع حرب الإبادة، بطريقة تهدف إلى حماية نظام الأبرتهايد الإباديّ، وإعادة تأهيل دوره في المنطقة، بعد أن تلقّت هيبته ضربة موجعة.

كما في كلّ حرب، تخيب توقّعات وتسقط حسابات وتحصل مفاجآت. فمن كان يتوقّع أن تتواصل الحرب لتسعة أشهر؟ من كان يتوقّع أن تتمكّن المقاومة الفلسطينيّة، المحرومة من عمق إستراتيجيّ، وتتركّز في شريط جغرافيّ صغير جدًّا محاصر ومفقر، من مواصلة الصمود؟ من كان يتوقّع أنّ أهالي غزّة، رغم الإبادة والتجويع والتدمير يواصلون التشبّث بوجودهم على أرضهم؟ نعم يبكون ويصرخون ويتوجّعون، لكنّهم باقون في أرضهم. ليس تمجيد هذا الصمود الخارق تهوينًا من المأساة، كما يفعل البعض، بل وصفًا لواقع مرير وتقدير لتلك القدرة الإنسانيّة الفائقة على التشبّث بالحياة. لكن أيضًا من كان يتوقّع أن تصمد حكومة نتنياهو إلى اليوم، ومن كان يتوقّع تمكّن المجتمع الإسرائيلي من التماسك حتّى اليوم، لمدّة تسعة أشهر، أليس هذا مفاجئًا نسبيًّا؟ إذ كانت التقديرات تقول إنّ المجتمع الإسرائيليّ لا يستطيع الصمود في حرب طويلة، سوى بضعة أسابيع. صحيح أنّ هذا التماسك مرشّح لهزّات حقيقيّة، وسيشهد هذا المجتمع الاستيطانيّ المشحون بالعنصريّة والكراهية، الزاخر بالتناقضات، صراعات شديدة. في نهاية المطاف لا يستطيع مواصلة الحياة على حدّ السيف.

ما نريد قوله بخصوص قراءة المشهد، هو أنّ قراءة المقاومة الفلسطينيّة لردّة الفعل الإسرائيليّة وحجم التدمير لم تكن دقيقة، وهذا ينطبق أيضًا على عدم توقّع سرعة اصطفاف الغرب الاستعماريّ، وبهذا المستوى، إلى جانب إسرائيل. كما أنّ قراءة إسرائيل لقدرة المقاومة على الصمود وطول نفسها كانت خاطئة، بل صادمة لأجهزة الاستخبارات والأمن والسياسة. وهذه الصدمة نابعة من الاستخفاف الّذي عادة يظهره المستعمر تجاه المستعمر، تجاه إنسانيّته وحقوقه، وقدرته على الفعل المقاوم، بل قدرته على الإبداع.

على المستوى الإستراتيجيّ، إسرائيل هي الخاسرة، وتحديدًا مشروعها الكولونياليّ الإباديّ. لقد غيّرت غزّة الوعي الشعبيّ العالميّ، ونسفت السرديّة الصهيونيّة، وولّدت وعيًا تحرّريًّا إنسانيًّا جديدًا.

وإزاء سؤال ما العمل لوقف المذبحة نهائيًّا، لا تزال الصورة مركّبة وصعبة، إذ لا تزال إسرائيل قادرة ومستمرّة في ممارسة الإبادة، وأنّ النهايات لا تزال بعيدة، بل إنّ هذه الحرب مرشّحة للاستمرار لسنوات، وإن بصورة منخفضة أو متقطّعة. فالأنظمة الغربيّة الكولونياليّة ومعها أنظمة عربيّة تنتظر تحقّق المخطّط الصهيونيّ؛ وهو إسكات صوت الرفض الفلسطينيّ، والتنكّر للعدالة، واختزال الحقّ الفلسطينيّ في تسويات مهينة.

في هذه الأثناء تتواصل المجزرة والتدمير، وحتّى لو توقّفت الحرب، فإنّنا سنكون أمام الكارثة الإنسانيّة الممتدّة والمتشعّبة في غزّة، ومن نتائجها المتوقّعة هو اضطرار ناس كثيرين لهجر قطاع غزّة والبحث عن حياة آمنة.

وفي ظلّ الحماية الإمبرياليّة لنظام الإبادة، والفشل في وقف المجزرة، يظلّ الفعل الفلسطينيّ الفاعل الأساسيّ المرشّح لإحداث الفرق، وهذا الفعل يتمثّل في أمرين؛ الجانب الميدانيّ والجانب السياسيّ. ولكنّ الخلل الأكبر، فلسطينيًّا، هو غياب الواجهة السياسيّة القادرة والمؤهّلة لرسم المقولة الفلسطينيّة في اليوم التالي. ولذلك، تتضافر جهود النخب الفلسطينيّة في الأشهر الأخيرة، غير الفصائليّة، في سباق مع الزمن لعقد مؤتمر فلسطينيّ وطنيّ، يفرز هذه الواجهة الوطنيّة القادرة على قيادة المرحلة، بعد تحرير منظّمة التحرير الفلسطينيّة من عبث الفريق الأوسلويّ.

هذه الجهود بعد أن قطعت خطوات هامّة، أثارت رعبًا حقيقيًّا لدى هذا الفريق المعزول من شعبه، فأوفد مبعوثين إلى عدد من الدول العربيّة؛ الجزائر، قطر، الأردنّ، مصر، وإلى تركيّا، للضغط على حكوماتها لمنع عقدها المؤتمر الوطنيّ.

يتبيّن أيضًا أنّ إسرائيل ستلعب دورًا تخريبيًّا لإحباط هذا الجهد، ومن أولى دلائل ذلك إقدام الصحافيّ الإسرائيليّ المخضرم والمقرّب من الأجهزة الأمنيّة، إيهود يعاري، على نشر مقال مطوّل في صحيفة “واشنطن بوست”، يحرّض فيه على هذه المبادرة مدّعيًا أنّ حركة حماس تقف وراء هذه المبادرة.

تتجمّع الدلائل على توفّر فرص حقيقيّة للنجاح، وهو نابع من نضوج تفكير المبادرين، وقدرتهم على العمل معًا. وسيتعيّن عليهم إتقان الإبحار في هذا البحر الهائج وشديد الاضطراب.



[ad_2]

Source link