كي لا يبتلعنا “الثقب الأسود”
[ad_1]
بات من الواضح حتى للمحللين والدبلوماسيين الإسرائيليين أن إسرائيل تتكبد خسائر جدية على مستوى الرأي العام العالمي، إذ باتت جميع المؤشرات تدل على ذلك. حتى أولئك الذين كانوا يدعون أن المظاهرات التي خرجت في العواصم الكبرى حول العالم لا تمثل الإرادة الشعبية للمواطن الأبيض – صاحب السلطة – في المدن الأوروبية، يشهدون اليوم اهتزاز صورة إسرائيل في المؤسسات الأكاديمية والثقافية الغربية التي دأبت على احتضان إسرائيل خلال السنوات الماضية بحجة القيم المشتركة، موفرين لإسرائيل فرصة للحفاظ على صورتها الليبرالية على الرغم من نظام الفصل العنصري الذي بات مشروع الدولة الرسمي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في العقد الأخير.
أمام حجم الخسائر منذ بداية الحرب، التفتت إسرائيل إلى أساليب خبيثة خلال الأشهر الأخيرة للتلاعب بالرأي العام العالمي، من خلال تمويل حملات إلكترونية في عواصم حول العالم، تحرض على العرب والمسلمين عموما، وعلى الفلسطينيين خصوصا، وإعطاء دفعة قوية من خلال حملات الذباب الإلكتروني للخطاب العنصري الآخذ في الرواج في تلك المدن ضد المهاجرين والشرقيين، كما كشفت الصحف العالمية.
على الرغم من التعتيم الإعلامي الذي يفرضه الاحتلال، ثبت لإسرائيل أن العالم قادر على فهم اللغة العبرية وتحليل وعرض السياسات الاحتلالية التي تهدف إلى تقويض أسس الحل الدائم وتطبيق نظام الأبرتهايد على الفلسطينيين. وثبت للساسة الإسرائيليين الذين ما زالوا ينادون بمحو غزة عن الوجود، أن أقوالهم وتصريحاتهم تُترجم خلال دقائق إلى كل لغات العالم وتنشر عبر المنصات ويتم توثيقها لتعرض في ما بعد في المحافل الدولية، بفضل مؤسسات الصحافة البديلة، عشرات الناشطين حول العالم، ومؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان.
أمام حجم الخسائر، انتقلت إسرائيل في الأشهر الاخيرة إلى تكثيف الجهود لإغلاق أي منفذ يسمح للعالم في الانكشاف على سياستها التي تطبق على أرض الواقع، من خلال سن حزمة من القوانين تهدف في المحصلة إلى تحويل الأراضي المحتلة إلى صندوق أسود مغلق، لا يعلم من خارجه عن داخله إلا القليل.
أول هذه القوانين كان القانون الذي يسمح لوزير الاتصالات في الإعلان عن حظر أي مؤسسة إعلامية بأنها “تشكل خطرا أمنيا”، وبالتالي منع البث من إسرائيل وإغلاقها؛ قرار أدى إلى إغلاق مكاتب قناة الجزيرة في إسرائيل. ومع سن القانون بات خطر الإغلاق يخيم حول كل منصة إعلامية تعمل من البلاد.
إلى جانب حملات الاعتقال العشوائية في حق ناشطين وصحافيين في الداخل والضفة، تستمر الحكومة الحالية في سياسات الحكومة السابقة بقيادة بيني غانتس، الذي أمر في إغلاق ستة مكاتب لمنظمات حقوق إنسان في الضفة الغربية تعمل على فضح جرائم إسرائيل أمام المحاكم الدولية. يعمل الكنيست اليوم على قانون يُجرّم أي تواصل مع المؤسسات الدولية التي تقوم بتحقيقات حول سياسات إسرائيل في الضفة وقطاع غزة وانتهاكات حقوق الإنسان، وتجريم أي تعاون مع المحاكم الدولية التي تحقق في قضايا جرائم الحرب في الجنائية الدولية ضد إسرائيل.
تشكل هذه القوانين استمرارا للمزاج العام في إسرائيل منذ بداية الحرب؛ إذ ما زالت تتعالى الأصوات ضد كل من يطالب في الكشف عما يحصل في قطاع غزة، وحجب الستار عن الأزمة الإنسانية الحاصلة في القطاع. أكبر دليل على ذلك هو مقترح القانون المقدم من نقابة الطلاب الجامعيين في إسرائيل الذي يسمح للجامعات بفصل فوري ومن دون تعويض لأي محاضر ينتقد سياسات إسرائيل تحت ذريعة “دعم الإرهاب”، بهدف قطع الطريق على الباحثين والأكاديميين من القيام بأبحاث نقدية جراء سياسات الاحتلال، واستهداف الأكاديميين الفلسطينيين في المؤسسات الجامعية الإسرائيلية. سبقت مقترح القانون هذا، حملة تحريض وتشهير غير مسبوقة ضد محاضرين وأكاديميين عرب ويهود المناهضين للصهيونية، وبتمويل من قبل نقابة الطلاب.
ومع استمرار تعنت إسرائيل في رفض دخول ممثلين ومحققين مستقلين من قبل مؤسسات الإغاثة الدولية التابعة للأمم المتحدة والصليب الأحمر لتفقد السجون، الأمر الذي يعرقل رصد حجم الانتهاكات بحق الأسرى والمعتقلين في السجون، فبات الاعتماد على المصدر الوحيد للمعلومات وهم الأسرى والمعتقلين عشوائيا المطلق سراحهم في قطاع غزة، ومن ينجح من طواقم المحامين في الدخول إلى “الثقب الأسود” في السجون الإسرائيلية.
لم تقتصر هذه السياسة على الكنيست فقط مع استمرار الحرب وانهيار صورة إسرائيل أمام العالم؛ فقد بدأت المؤسسات الرسمية من نقابات مهنية ومؤسسات علمية تتبع بشكل طوعي ذات النهج، لسد أي منفذ للمعلومات التي تساهم في عرض التغييرات التي تقوم بها إسرائيل على أرض الواقع في الضفة الغربية، وانتهاكات في حق الإنسان الفلسطيني، من خلال المحاسبة والتشهير بكل من يتجرأ ويعلي صوته ضد الجرائم الحاصلة بحق الفلسطينيين، ويرفض الحرب الانتقامية. بعد اجتياح النزعة القومجية المتطرفة المؤسسات الأكاديمية والطبية، وصلت أخيرا إلى نقابة المحامين التي لم تتوان في التشهير بالمحامين “الخارجين عن الصف” ويرفضون الحرب.
لا شك بأن لشبكات التواصل الاجتماعي الدور الكبير في عرض صورة المأساة الفلسطينية الحاصلة في غزة بفعل الاحتلال واستثارة الرأي العام العالمي ضد الحرب وسياسات إسرائيل في المنطقة. ولكن مع استمرار الحرب والمجازر الحاصلة في غزة، هناك خطر حقيقي في أن تتحول حرب الإبادة هذه إلى خبر ثابت روتيني في نشرات الأخبار، ومنشور متكرر على شبكات التواصل الاجتماعي. ومع استمرار إسرائيل في خلق الثقب الأسود من خلال سياسات التعتيم والملاحقة سيصبح من الصعب مستقبلا كشف النقاب عن حجم الجرائم، ويقطع الطريق فيما بعد على التحقيق والمحاسبة.
نجحت إسرائيل في الأشهر الأولى للحرب في خلق حالة من الرعب في أوساط فلسطينيي الداخل، ومنذ اللحظة الأولى قامت الحكومة بإعادة تفعيل السياسات العسكرية الهادفة لتعزيز الرقابة والسيطرة على المجتمع العربي. ومع استمرار الحرب باتت “أنظمة الطوارئ” هذه هي القاعدة الجديدة.
أمام هذه المحاولات الحثيثة لتحويل إسرائيل وسياسات الاحتلال إلى صندوق أسود، لا بد لفلسطينيي الداخل من دور فعال ضمن الجهود لفتح الصندوق حتى لا نعلق في داخله، من خلال الالتحام ولو متأخرا بالصرخة الفلسطينية والعالمية المطالبة بوقف الحرب وإنهاء الاحتلال، التي باتت تصدح في أنحاء العالم. أولى الخطوات التي باتت ملحة أكثر من أي يوم آخر، هي إعادة ترتيب الصف السياسي والنهوض من حالة التعثر التي باتت تبعثر المجتمع الفلسطيني في الداخل وتمنعه من التنظيم، والارتقاء في الخطاب والفعل السياسي. فإذا ظلت أصواتنا متفرقة، ولا نتحدث إلا في الغرف المغلقة، سينتهي الأمر بابتلاعنا في هذا الثقب الأسود.
*محام وناشط في مجال حقوق الإنسان
[ad_2]
Source link