إمبراطورية المستوطنات.. هل تنجح خطة إسرائيل لاستيطان غزة مجددا؟ | سياسة

0 6

[ad_1]

في بيت لاهيا شمالي غزة، عاش سعيد في مزرعة العائلة التي ورثها عن أجداده، يزرع الجوافة والليمون والبرتقال والنعناع خمسة عشر عاما رفض خلالها التخلي عن مزرعته رغم توالي الحملات الإسرائيلية على القطاع. ولكن مع اشتداد القصف والحملات البرية في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اضطر سعيد إلى الفرار مع والده وأخته جنوبا. وبعدها بأيام، أبلغه أحد أقربائه أن الجيش الإسرائيلي دمر المزرعة وخمسة منازل محيطة بها كان يسكنها أقاربه، وقضى بذلك على مصدر دخله الوحيد.

لم تكن مزرعة سعيد الوحيدة، فهي من بين آلاف المنشآت الفلسطينية التي دُمرت جراء الحرب الإسرائيلية، إذ إن القصف الذي استهدف “البنية التحتية للإرهاب” وفق مزاعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أسفر حتى نهاية يناير/كانون الثاني عن تدمير وإتلاف ما يصل إلى 175 ألف مبنى من مباني قطاع غزة، أي 60% تقريبا من إجمالي مباني القطاع قبل الحرب. وقد استهدف القصف بالأخص مباني الجامعات والمدارس والمؤسسات المدنية وكذلك الأراضي الزراعية والمخابز في شمال ووسط غزة. ودفع نطاق الدمار بأحد الأكاديميين الذين شاركوا في تقييم خراب العمران بغزة إلى أن يقول: “لقد عملنا في أوكرانيا ودرسنا حلب ومدنا أخرى، لكن حجم ومعدل الدمار في غزة غير مسبوق. لم أرَ قط مثل هذا الدمار يحدث بهذه السرعة”.

عند هذه المرحلة، سواء طال العدوان على القطاع أشهرًا أم انتهى اليوم، وبغض النظر عن وضع القدرات القتالية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في نهاية الحرب، فإن هذا هو وقت التساؤلات حول نهاية الحرب وما إذا كانت الكارثة الإنسانية ستؤدي إلى تدفق ضخم للغزيين خارج القطاع، بحسب ما خططت الحملة الوحشية الإسرائيلية منذ البداية، رغم رفض دول المنطقة المعلن لتهجير الفلسطينيين. وحتى إن أصر الغزيون على البقاء في المناطق المتكدسة بالجنوب والمدمرة تماما بالشمال والعيش في خيم الإيواء انتظارا لجهود إعادة الإعمار التي ستطول لا محالة، فهل نستبعد أن تمضي حكومة الاحتلال اليمينية قدما في زرع كتل استيطانية داخل القطاع في الأحياء التي أخلتها من ساكنيها أو هدمت منازلها فوق رؤوسهم؟

لقد بدأت بوادر هذا السيناريو الكابوسي تطل برأسها القبيح بالفعل، ففي خضم هذه المأساة ينتهز المستوطنون المتطرفون الفوضى والنيات الاستيطانية لحكومة الاحتلال لزرع موطئ قدم لهم في غزة. وفي بداية فبراير/شباط، اقتحم أكثر من مئة مستوطن منطقة عسكرية مغلقة على الحدود مع غزة وحاولوا الدخول إلى القطاع قبل أن يعيدهم جيش الاحتلال، لكنهم لا يخططون للاستسلام قريبا. وقد قال أحدهم في مقابلة صحفية بعد محاولة الاقتحام بقليل: “سنستمر في محاولات دخول القطاع. ولو كنا نجحنا اليوم لكانوا طردونا بسرعة على الأرجح. لكننا سنُصعِّد خطواتنا. سنصل وننصب الخيام ونحاول الاستقرار في الأرض. هناك عائلات كثيرة مستعدة لفعل أي شيء في سبيل ذلك”. لكن ما مدى إمكانية نجاح لصوص الأرض في ظل إصرار صاحبها على البقاء والمقاومة؟

 

“مسرحية” فك الارتباط

مسيرة ضخمة نظمها أكثر من 20 الف مستوطن باتجاه حومش اواخر ديسمبر الماضي (الجزيرة)

بالقرب من سفح الجبل الذي قامت عليه مستوطنة حومش على الطريق الواصلة بين محافظات جنين، ونابلس، وطولكرم، وعلى أرضه الخاصة في منطقة سيلة الظهر، يحاول جهاد موسى بناء منزل له ولعائلته. ولكن مهمته ليست باليسيرة، فقبل أشهر هجمت جماعة من 30 مستوطنا مُسلحا بالسكاكين والبنادق الآلية على المبنى غير المكتمل، وسرقوا النوافذ والأبواب ومضخات المياه. “وما لم يستطيعوا أخذه كسروه، حتى رخام السلم”، على حد قوله. لم يكن الهجوم على موسى حالة فردية، فجاره صلاح قرارية تحدث لنيويورك تايمز أيضا عن جماعات المستوطنين التي تقذف بيته بالحجارة وترميه بالشتائم العنصرية وتقتلع أشجار الفاكهة من حديقة منزله.

نظرا لموقعها الإستراتيجي على الطريق الرئيسي بين نابلس وجنين، وطبيعتها المميزة الخلابة، وارتفاع أراضيها بحيث ترى ثلثَي فلسطين؛ كان للانسحاب من مستوطنة حومش عام 2005 وتجريم دخول أي إسرائيلي إلى أراضيها وقع الصاعقة على الحركات اليمينية. وقد تحدى المستوطنون طوال أعوام قرارات الحاكم العسكري بدخول المنطقة أحيانا والتناوب على زيارتها والإقامة بها في كرافانات متنقلة أحيانا، ثم بإقامة مدرسة دينية تمنحها الحكومة حوافز مالية بيد وتبادر لإخلائها بالقوة باليد الأخرى. ولكن الوضع تغير عام 2021 بعد عملية فلسطينية أدت إلى مقتل أحد طلاب المدرسة، اتخذها جيش الاحتلال الإسرائيلي ذريعة لوضع قوة عسكرية دائمة بدعوى حماية الطلاب.

والآن تقبع ثلاث عائلات في حومش في مساكن مؤقتة متهالكة، تحرسهم قوة تفوقهم عددا من قوات جيش الاحتلال. ورغم أن عددهم لا يتجاوز الخمسين، فإنهم اعتادوا مهاجمة القرى الفلسطينية الواقعة أسفل التل بين الحين والآخر، ويتلفون المنازل ويقتلعون أشجار الزيتون ويسرقون الماشية، مسلحين بالبنادق في مواجهة القرويين العزل، وسط محاولات غير جادة من الجنود المكلفين بحمايتهم للسيطرة على ميولهم العنيفة.

تفضل الحركة الاستيطانية تصوير نفسها على أنها حركة ثورية معارضة تتحدى ظروفا بالغة الصعوبة، أو “حركة تحرر وطني” كما يصفها المنتسبون إليها. ولكن هذه الصورة المُختلقَة لا تصمد أمام التدقيق. لقد شجعت الحكومات الإسرائيلية بمختلف توجهاتها وأطيافها السياسية المشروع الاستيطاني منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة عام 1967، وبلغت نسبة الأراضي الممنوحة للمستوطنين 99% من إجمالي “أراضي الدولة” المخصصة لأعمال البناء، بينما خصصت نسبة 1% فقط للفلسطينيين. كما أغدقت الدولة على المستوطنين اليهود المعونات والحوافز المالية بغض النظر عن وضعهم المادي (ويتمتع الكثير منهم بالأمان الاقتصادي بالفعل ولا يحتاج إلى مثل هذه المعونات).

وتُصنِّف الحكومة الإسرائيلية أغلب الأراضي التي تقع فيها المستوطنات على أنها “مناطق ذات أولوية وطنية”، وتستحق بذلك إعفاءات موسعة من الضرائب للأفراد والشركات، وتعليما مجانيا وإسكانا مخفضا. وكثير من المستوطنات الزراعية لا تدفع أي رسوم إيجار عن أراضيها للحكومة وكلها أراض مصادرة بشكل غير قانوني من الفلسطينيين. وبالتوازي مع هذه المزايا التي لا يتمتع بها السواد الأعظم من فلسطينيي الأراضي المحتلة، تحارب الحكومة الإسرائيلية فعليا النشاط الاقتصادي الفلسطيني في الضفة الغربية عبر الامتناع عن منح تصاريح العمل ومزاولة النشاط؛ مما يجهض نمو المجتمعات الفلسطينية ويكلف الاقتصاد الفلسطيني مليارات الدولارات سنويا.

والحديث عن أعمال العنف الروتينية التي يرتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين يطول، وتتنوع وسائله من اقتحام البيوت وتدميرها وتكسير السيارات وتجريف الأراضي الزراعية وسرقة الماشية ومنعها من الرعي وتدمير خزانات المياه وصولا إلى الاعتداءات الجسدية وإطلاق الرصاص الحي بقصد القتل والإصابة. ويمكن الرجوع إلى تقرير “بيزنس الدولة” الذي نشرته المنظمة الحقوقية الإسرائيلية “بتسيلم”، إذ يوضح بجلاء كيف أن العنف الاستيطاني جزء لا يتجزأ من سياسة الدولة ويسير يدا بيد مع إجراءاتها الرسمية بمصادرة أراضي الفلسطينيين والتضييق عليهم. لقد تدفق الدعم الرسمي للمستوطنات والمستوطنين بشتى الطرق ولم ينقطع تقريبا إلا في سابقة واحدة، وهي خطة فك الارتباط عام 2005، حين انسحبت إسرائيل من قطاع غزة وفككت مستوطناتها هناك، التي كان يسكنها 8 آلاف إسرائيلي، حصلوا -بالطبع- على تعويضات سخية، إلى جانب 4 مستوطنات في شمال الضفة.

لم يجر الانسحاب الأحادي من غزة عن نية حسنة من الجانب الإسرائيلي، وهو استنتاج ليس بحاجة إلى ذكاء كبير أو تحليلات متعمقة، لا سيَّما إن علمنا أن دوف ويسغلاس، مدير مكتب آرييل شارون رئيس الوزراء في ذلك الحين وأقرب مستشاريه، الذي شارك بكثافة في مفاوضات ما بعد أوسلو؛ قال في حوار مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2004 إن خطة الانسحاب الإسرائيلي من غزة، التي كان يجري إعدادها في ذلك الوقت، هي “في الحقيقة فورمالدهيد ** بالكمية المطلوبة لمنع قيام عملية سياسية مع فلسطين”، وذلك عبر تجميد عملية السلام وإجهاض آفاق الحديث بشأن تأسيس الدولة الفلسطينية ووضع القدس ومطالب عودة اللاجئين.

كان من السهل اعتبار تصريحات ويسغلاس في ذلك الحين مناورة إعلامية تهدف إلى تهدئة المعارضة الواسعة للقرار في صفوف المستوطنين من أجل تنفيذ عمليات تفكيك المستوطنات بسلاسة نسبيا، لكن الحقيقة أنه بعد مرور 19 عاما على “إحياء عملية السلام”، لم يُحرَز أي تقدم جدير بالذكر في الملفات التي ذكرها ويسغلاس. وليس من الغريب أن الكنيست صادق في بداية عام 2023 على مشروع قرار يلغي فك الارتباط ويسمح بعودة الإسرائيليين إلى مستوطنات شمال الضفة وعلى رأسها مستوطنة حومش، فالمناورة أدت غرضها ولم تعد إسرائيل بحاجة إلى الالتزام ولو صوريا بالتفاهمات ولا بعملية السلام.

 

7 أكتوبر.. البديل الوحيد

سرب "صقر" إحدى الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية #طوفان_الأقصى
تؤطر حركة حماس عملية طوفان الأقصى بوصفها انفجارا فرضه الضغط الإسرائيلي، وحتمية إستراتيجية لا مفر منها لبث الحياة في القضية الفلسطينية (مواقع التواصل)

إن قرار العودة إلى حومش ومن بعدها باقي مستوطنات الضفة ليس مجرد قرار عادي يعزز الحركة الاستيطانية، بل له دلالات بالغة الأهمية. فقيادة المنطقة الوسطى بالجيش الإسرائيلي التي قررت في مطلع العام الماضي الرجوع عن قراراتها الصادرة عام 2005 من أجل السماح للمستوطنين بالعودة إلى مستوطنات شمال الضفة هي الجهة نفسها التي أصدرت القرارات التي انتقلت بموجبها أجزاء من أراضي الضفة الغربية إلى سيطرة السلطة الفلسطينية الوليدة تمهيدا لإقامة دولة فلسطينية. وإذا كان من الممكن قانونيا وإجرائيا إلغاء قرارات حومش، فلا شيء يحول دون التراجع عن الإجراءات المتخذة بموجب اتفاق أوسلو إلا اعتبارات سياسية تتقهقر بمعدلات متسارعة في وجه المد اليميني. وقد تفاخر نتنياهو في تصريحات رسمية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول بأنه هو من عرقل حل الدولتين، وأعلن وزراء بحكومته رفضهم إقامة أي دولة فلسطينية لما يقتضيه ذلك من التخلي عن أراضي “يهودا والسامرة” المقدسة.

وتجدر الإشارة هنا إلى غياب أي جهود ملموسة فيما يتعلق بقضية حومش من جانب السلطة الفلسطينية، الممثل “الشرعي” للفلسطينيين في المحافل الرسمية، رغم الزخم والرفض الدولي الواسع الذي كان يمكن للسلطة استغلاله في تنسيق حملة دبلوماسية قوية تضغط على إسرائيل. فحين قرر ثلاثة من ملاك الأراضي الفلسطينية التي قامت عليها حومش اللجوء إلى القضاء الإسرائيلي للاعتراض على القرارات وعلى إقامة المدرسة الدينية على أراضيهم الخاصة، لم يجدوا إلا منظمة “ييش دين” الحقوقية الإسرائيلية لتعرض عليهم التمثيل القانوني. وإن أضفنا إلى ذلك ضم إسرائيل الفعلي للضفة الغربية في يونيو/حزيران من العام الماضي عبر نقل أغلب سلطات الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي ووضعها تحت إدارة مدنية خاصة بقيادة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية ورئيس حزب الصهيونية الدينية، يصبح الطريق ممهدا أمام التوسع الاستيطاني والضم الرسمي للضفة في مرحلة لاحقة.

في هذا السياق من غياب تمثيل حقيقي يدافع عن حقوق الفلسطينيين واستعداد اليمين لدق آخر مسمار في نعش أوسلو، تؤطر حركة حماس عملية طوفان الأقصى بوصفها انفجارا فرضه الضغط الإسرائيلي، وحتمية إستراتيجية لا مفر منها لبث الحياة في القضية الفلسطينية. في وثيقة حركة حماس بعنوان “هذه روايتنا” التي توضح فيها أسباب إقدامها على عملية طوفان الأقصى، يتكرر ذكر مخططات الاستيطان والتهويد التي تسارعت وصولا إلى أعلى معدلاتها العام الماضي. “ماذا كان يتوقّع العالم من شعبنا أن يفعل.. في مواجهة توسع الاستيطان في الضفة الغربية بوتيرة غير مسبوقة، وفي مواجهة عنف المستوطنين وجرائمهم، التي وصلت مستويات غير مسبوقة؟”، هكذا تساءلت الوثيقة.

وفي مواجهة إصرار اليمين الإسرائيلي على خنق أي آفاق لتسوية سلمية للصراع، لم يعد من خيار لإيقاف المشروع الاستيطاني سوى رفع تكلفته إلى حد لا يتحمله المجتمع الإسرائيلي. وهذا يبدأ بكشف الأساس الواهي للمستوطنات وضعف وضعها الأمني والإستراتيجي. ومع ضعف التوجيه في منظومة الصواريخ المتاحة للمقاومة، واشتراط إسرائيل أن تحتوي البيوت في مستوطنات غلاف غزة على “غرف آمنة” يحتمي بها المستوطنون من القصف، لم يعد تحقيق المقاومة لهدفها ممكنا إلا باختراق مباشر للسياج الأمني حول القطاع ومهاجمة بنية المستوطنات من الداخل بهدف أسر أكبر عدد ممكن من المستوطنين والعسكريين.

الانهيار الأمني السريع في مستوطنات غلاف غزة كافة وقواعدها العسكرية لم يكن ليتوقعه أحد على الإطلاق (مواقع التواصل)
الانهيار الأمني السريع في مستوطنات غلاف غزة كافة وقواعدها العسكرية لم يكن ليتوقعه أحد على الإطلاق (مواقع التواصل)

ومع الساعات الأولى لانطلاق عملية طوفان الأقصى تبين أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية لم تكن مجهزة لعملية اقتحام من هذا النوع، خاصة مع التخطيط المحكم من جانب القسام، فهي منظومة موجهة بالأساس لصواريخ المقاومة. وحتى الغرف الآمنة في كل بيت لا يمكن للمحتمين بها إغلاقها من الداخل. وقد اتفقت شهادات المستوطنين وقوات الجيش فيما بعد على أن مقاتلي القسام كانوا يتوجهون بمجرد دخولهم أرض المستوطنة إلى منزل رئيس الأمن فيها؛ مما يشير إلى أن أهداف الهجوم تحددت بناء على عمليات استطلاع مكثفة وأنه لم يكن هجوما انتقاميا عشوائيا.

كان حجم الانهيار الأمني وسرعته في مستوطنات غلاف غزة كافة وقواعدها العسكرية غير متوقع حتى لدى المقاومة نفسها، وأدى إلى تحول الهجوم، الذي كان من المفترض أن يكون خاطفا ضد أهداف منتقاة بعناية، إلى طوفان من المسلحين والمدنيين داهموا المستوطنات، واتخذوا مستوطنة صوفا أقرب المستوطنات إلى القطاع قاعدة انطلاق لمهاجمة مستوطنة بئيري الأكثر تضررا من الهجوم، ومستوطنة سديروت أكبر مستوطنات الغلاف، وكذلك كيسوفيم وحتى زيكيم المحصنة التي تضم قاعدة عسكرية وعددا من المنشآت الحيوية. وفي منطقة يسكنها 55 ألف مستوطن، خلف الهجوم حصيلة كبيرة من القتلى فاقت توقعات الحركة وترتيباتها، فضلا عن تنامي الأدلة على سقوط عدد من القتلى بفعل الاستهداف العشوائي من جانب القوات الإسرائيلية (ويحقق الجيش الإسرائيلي حاليا في مقتل 12 شخصا في منزل قصفته قوات الجيش بمستوطنة بئيري تنفيذا للأوامر).

على أي حال، لا شك في أن هجوم حماس قد هدم الأوهام المتعلقة بأمان الحياة في المستوطنات وقابليتها للاستمرار. ولا يخفى على أحد الآن أن التوسع الاستيطاني غير المحسوب إلى مناطق غير مؤمنة في ظل الاستفزاز شبه الدائم للفلسطينيين له عواقبه، فقد تمخضت عملية المقاومة من جبهة الجنوب وما تلاه من قصف حزب الله من جبهة الشمال عن نزوح مئتي ألف إسرائيلي تقريبا تتحمل الحكومة تكاليف إقامتهم في فنادق ومساكن إيواء متكدسة. ويرفض السواد الأعظم من النازحين العودة إلى مساكنهم في المستوطنات دون تغير حقيقي في المناخ الأمني يضمن ألا يتكرر ما حدث في السابع من أكتوبر.

يأتي ذلك الرفض ليهدم ثمرة جهود بذلتها الحكومة الإسرائيلية لأعوام طويلة لإغراء الإسرائيليين باستيطان غلاف غزة والبقاء في المنطقة، عبر حوافز اقتصادية ومشروعات تجارية وامتيازات تفوق ما يتمتع به مستوطنو المناطق الأخرى. وفي مطلع يناير/كانون الثاني حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه لا معوقات أمام العودة إلى مستوطنات الغلاف، تزامنا مع تقديم الحكومة “حزمة مساعدات” للمستوطنين الراغبين في العودة، ندد تامر عيدان رئيس أحد المجالس الاستيطانية في صحراء النقب بمحاولات حكومة نتنياهو “رشوة” السكان بمنح مالية مقابل العودة إلى غلاف غزة، رغم عدم تحسن الوضع الأمني؛ مما يعرض حياتهم للخطر.

كذلك فإن محاولات إسرائيل للتعجيل بإعادة المستوطنين إلى غلاف غزة تنبع من كون هذه المستوطنات سلة غذاء بالغة الأهمية للداخل الإسرائيلي. فبيانات مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست تكشف أن كمية هائلة من محاصيل البطاطس والطماطم والجزر وغيرها من الخضراوات في السوق الإسرائيلي تأتي من غلاف غزة. وقد شهدت الأيام الأولى للحرب ارتفاعات حادة في أسعار الخضراوات نتيجة لنقص المعروض. ومع أن الوضع تحسن فإن الأزمة ما زالت مستمرة ويصعب توفير العمالة للأراضي المتاخمة للقطاع.

 

استيطان غزة.. بين ضلالات اليمين والدوافع البراغماتية

إن إعادة استيطان غزة رغم ما فيه من تحدٍّ للقانون الدولي وتعريض حياة المدنيين الفلسطينيين فضلا عن الإسرائيليين لأخطار دائمة ستصب بلا شك في مصلحة نتنياهو. فانتهاء الحرب في غزة سيعني تفرُّغ التيارات الإسرائيلية لطرح أسئلة حول الإخفاق الأمني والاستخباري غير المسبوق الذي أدى إلى عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من عجز عسكري عن تدمير القدرات القتالية لحماس بعد أشهر من القتال والتراخي في استعادة الأسرى المحتجزين لدى الحركة، بل وقتل الكثير منهم بفعل القصف الإسرائيلي نفسه.

ورغم قدرة نتنياهو المعروفة على المناورة السياسية وتكوين تحالفات تضمن بقاءه في السلطة، يصعب تخيل أن ينجح رئيس الوزراء في وأد محاولات الإجابة عن هذه التساؤلات التي ستنتهي على الأرجح بفقدانه منصبه. وإذا كان هدف نتنياهو هو التشبث بالسلطة، فإن العودة إلى مستوطنات غزة ستحقق له استدامة التهديد الأمني وبقاء فزاعة حماس، وتصبح ذريعة لاستمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع حتى وإن تم التوافق على إدارة مدنية فلسطينية (وهو احتمال ضعيف).

هذا فضلا عن أن استيطان غزة سيعزز شعبية نتنياهو وسط القوى اليمينية المتطرفة التي بدأت بالفعل في إعداد خرائط تظهر الأحياء الإسرائيلية الجديدة في القطاع وتعرضها في مؤتمرات استعراضية علنية كان أبرزها المؤتمر المنعقد في نهاية يناير/كانون الثاني، بحضور عدد كبير من وزراء حكومة نتنياهو أبرزهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. وتضمنت تلك الخرائط مستوطنات ضخمة في جنوب القطاع وشماله ووسطه، بعضها يحمل أسماء جنود قتلوا في غزة وبعض آخر يحمل أسماء مرتبطة بأحداث مهمة في التاريخ اليهودي. كما اشتمل المؤتمر على استمارات لتسجيل أسماء الراغبين في استيطان القطاع بعد “تطهيره” من الفلسطينيين.

إذا تجاوزنا ضلالات اليمين المتطرف غير القابلة للتحقق حول الاستيطان الشامل لغزة، فسيظل تنفيذ استيطان محدود للقطاع ممكنا. وقد تميل الحكومة إلى اختيار مواقع البؤر الاستيطانية بحيث تضرب عدة عصافير بحجر واحد، فتحقق هدف التشويه الجغرافي عبر فصل شمال القطاع عن جنوبه وإحكام حصارها للقطاع من جهة، ومن جهة أخرى تلعب على مشاعر الحركة الاستيطانية وتمنحها انتصارا رمزيا بالعودة إلى المستوطنات المفككة في القطاع. بجانب ذلك، يُحقق استيطان غزة هدفا إستراتيجيا مهما لإسرائيل، وهو تفتيت آخر مساحة أرض متصلة من الأراضي المرشحة لقيام دولة فلسطينية في المستقبل. فمع أن مساحة قطاع غزة لا تتجاوز 365 كيلومترا، ورغم الحصار الممتد المفروض عليها برا وبحرا وجوا، فإن غياب أي وجود مستدام للإسرائيليين على أرضها يؤدي إلى احتفاظها بالاتصال الجغرافي اللازم لقيام أي دولة ذات سيادة فعلية.

إن نجاح المشروع الاستيطاني في قطع هذا الاتصال الجغرافي لا يتطلب نقل أعداد كبيرة من المستوطنين على الإطلاق. فيكفي قيام بؤر استيطانية بأعداد قليلة في مواقع إستراتيجية يختارها المستوطنون بعناية دون طلب الإذن من الحكومة. ثم تسيطر البؤر الاستيطانية على أضعاف مساحتها من الأراضي الفلسطينية عبر مسار متوازٍ من الإجراءات الرسمية لمصادرة أراضي الفلسطينيين وضمها إلى “أراضي الدولة” أو إعلانها مناطق عسكرية من جهة، والعنف والإرهاب الاستيطاني لسكان المناطق المجاورة؛ مما يدفعهم إلى المغادرة أو يحرمهم من مصادر دخلهم.

لقد أثبتت إستراتيجية البؤر الاستيطانية نجاحها في تحقيق هذه الأهداف في الضفة. ففي عام 1998 وخوفا من المضي قدما نحو تأسيس دولة فلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، وجه آرييل شارون وكان وزير الخارجية آنذاك نداء للمستوطنين لاحتلال مواقع التلال والمرتفعات من أجل تقسيم الأراضي المزمع تسليمها إلى السلطة الفلسطينية. وعلى مدار أعوام، ورغم مخالفة البؤر الاستيطانية لقوانين إسرائيل نفسها، ساعد جيش الاحتلال الإسرائيلي على تأسيس العديد من هذه البؤر وأمد ساكنيها مهما قل عددهم بالحماية العسكرية والبنية التحتية اللازمة تمهيدا لإصدار قرار بتقنينها من الحكومة المدنية وربما إنشاء مستوطنة كاملة فيما بعد.

في غياب الإرادة السياسية لإخلائها وبغطاء من الحماية العسكرية، بلغ معدل تأسيس البؤر الاستيطانية أعلى مستوياته التاريخية عام 2023 بواقع 26 بؤرة استيطانية جديدة، وهو ما يشير إلى تصاعد معدلات إنشاء البؤر نظرا للسهولة النسبية في لوجستيات إنشائها و”مرونة” المؤسسات القانونية والأمنية اتجاهها. وآخر البؤر الاستيطانية التي صدر قرار بتقنينها وتحويلها إلى مستوطنة هي مشمار يهودا في تجمع جوش عتصيون الاستيطاني جنوب القدس، وذلك بقرار من سموتريتش في أواخر فبراير/شباط.

من المواقع المرشحة بقوة للبدء في مشروع إعادة استيطان غزة ما يُعرف بمحور نتساريم، الذي يمتد من شرق القطاع إلى غربه جنوب مدينة غزة. وقد قامت في ذلك النطاق أكبر مستوطنات القطاع وأكثرها تحصينا، وهي مستوطنة نتساريم، عام 1977 على مسافة 5 كيلومترات جنوب مدينة غزة، على مساحة تمتد من شارع هارون الرشيد غربا حتى شارع صلاح الدين الأيوبي شرقا، وسيطر الاحتلال على ضعف مساحتها الفعلية تقريبا لتأمينها من “البيئة المعادية” التي نشأت فيها. ويوضح مروان حمد رئيس بلدية مدينة الزهراء التي أقيمت بالقرب من المستوطنة للحد من توغلها أكثر في أراضي القطاع أن الهدف من إنشاء المستوطنة في هذا المكان بالتحديد كان “قطع أوصال القطاع وإقامة الحواجز الدائمة والتحكم بشكل كامل في حركة تنقل المواطنين والمركبات من شمال القطاع وجنوبه ووسطه”.

وفي عام 2008، بعد ثلاثة أعوام من فك الارتباط، رفض عدد من المستوطنين الذين طردهم جيش الاحتلال من كتلة غوش قطيف الاستيطانية (وأكثرهم من نتساريم) تقبل الوضع الجديد، وبنوا منازلهم في موقع يبعد كيلومترين فقط عن حدود القطاع صار فيما بعد مستوطنة “بني نتساريم”. وبعد مرور أعوام على فك الارتباط، ما زال سكان بني نتساريم ينتظرون العودة إلى القطاع. وقد أتاح الموقع الإستراتيجي لمحور نتساريم الذي تتوغل فيه الوحدات الإسرائيلية حاليا فصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، والسيطرة على هذا المحور وإغلاقه في وجه شاحنات المساعدات تعرض أهل الشمال حاليا لمجاعة فعلية.

أشارت تقارير بوسائل إعلام إسرائيلية في أواخر فبراير/شباط إلى أن العمل بدأ بالفعل على إنشاء طريق سريع بطول ستة كيلومترات تقريبا، بدءا من شرق القطاع بالقرب من مستوطنة ناحال عوز حتى شاطئ البحر غربا. وتظهر صور الأقمار الصناعية المربعات السكنية والأراضي الزراعية التي تضررت جزئيا أو كليا على يمين ويسار الطريق، نتيجة لقصف الطيران والمدفعية الإسرائيلية أو نسفها بأيدي القوات المتوغلة تمهيدا لإنشاء الطريق. وتأسيس بؤرة استيطانية على طريق نتساريم الذي يجري إعداده يخدم أهدافا مماثلة لوجود بؤرة حومش على الطريق بين نابلس وجنين، الذي صعب الحياة اليومية للسكان وشل حركة الانتقال بينهما في مناسبات عديدة.

 

 

الأمن في ذيل الأولويات

الاستيطان الإسرائيلي يتمدد في الضفة
الآثار السلبية للاستيطان غير المسؤول لم تعد بحاجة إلى إثبات، وصارت جزءا من الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين والمستوطنين على حد سواء (رويترز)

إن التحليلات التي تستبعد إقدام إسرائيل على السماح للمستوطنين بدخول القطاع قبل تأمينه بالكامل والقضاء على البنية التحتية لحماس تنطلق من الافتراض المنطقي بأن المؤسسات المدنية والعسكرية في إسرائيل، كغيرها من الدول، لا ترغب في تعريض مواطنيها للخطر، وأن وجود هؤلاء المواطنين في مناطق نائية عن المراكز الحضرية، وبالقرب من تنظيم مسلح يحمل عقيدة معادية لوجودهم أصلًا، يعرضهم للاستهداف المستمر ويفرض الوجود العسكري الذي يستنزف موارد قوات الجيش ويصعب مهمة الدفاع عن حدود الدولة.

لكن اعتبارات الأمن قلما أدت دورا في عملية وضع السياسات بإسرائيل، حتى قبل صعود اليمين. ويوضح تقرير صادر عن مركز “مولاد” البحثي الإسرائيلي أن الذرائع الأمنية للتوسع الاستيطاني واهية للغاية، وأنها لم تعد سارية بعد تطور تسليح الجيش الإسرائيلي وتوقيع اتفاقيات السلام. ولا يؤدي زرع مجتمعات “استيطانية” بالقرب من المراكز السكانية الفلسطينية الآن إلا إلى تحقيق الهدف السياسي بتقليل احتمالات قيام دولة فلسطينية، لكنه في الوقت ذاته يضغط على موارد الجيش الإسرائيلي ويضر بالجاهزية القتالية لقواته، عبر اضطراره إلى الدفاع عن مساحات أوسع.

ومع النفوذ السياسي المتضخم لقيادات الحركات الاستيطانية، يخرج الأمر في بعض الحالات عن سيطرة الحكومة والجيش، فيبادر المستوطنون المتطرفون من تلقاء أنفسهم إلى تحديد مواقع البؤر الاستيطانية وحمل خيامهم وكرافاناتهم إليها من دون التشاور مع القادة العسكريين أو تحديد إمكانية تأمين قوات الجيش للمستوطنة. ولأن المستوطنين يرفضون مغادرة تلك البؤر ولا يخرجون منها إلا بالقوة، ولأن إخلاء البؤر الاستيطانية موضوع سياسي محتدم يضر بالقواعد الانتخابية للحركات اليمينية، تمر هذه التصرفات غير المسؤولة بسلام ويُترَك جيش الاحتلال ليوفق خططه على أهواء المستوطنين ويوزع المزيد من القوات لتأمين المواقع الهشة للبؤر الاستيطانية.

ويتدخل قادة المجالس الاستيطانية والحركات الاستيطانية في التقديرات الأمنية الخاصة بالجيش الإسرائيلي وفي اختيار الكتائب الإسرائيلية الموالية للمستوطنين وتحديد مواقع تمركزها، ويضغطون لتعطيل ترقيات القادة العسكريين الذين لا يحملون الود للمستوطنين ويصطدمون بهم عند مخالفتهم القانون، بحسب تقرير مولاد. وحتى مع ذلك، لا تسلم قوات الجيش الإسرائيلي من أذى المستوطنين وتعطيلهم عمدا لعمل قوات الجيش، وربما تطور الأمر في أحيان نادرة إلى مواجهات مباشرة.

الآثار السلبية للاستيطان غير المسؤول لم تعد بحاجة إلى إثبات، وصارت جزءا من الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين. فالقوة المتمركزة في سيلة الظهر لحماية بضع عشرات من مستوطني حومش المتطرفين بواقع جندي أو أكثر للمستوطن الواحد تعرضت لكمين من شابين فلسطينيين مسلحين أطلقا النار على الجنود ثم فجرا عبوة ناسفة في القوة المطاردة. وهذا بالتحديد هو الهدف الذي لا تحاول هذه “الطلائع الاستيطانية” إخفاءه أو إنكاره، فهي تجر في ذيلها عساكر الجيش وتعمل على إحالة حياة الفلسطينيين إلى حجيم وقطع أرزاقهم، أملا في استفزاز الأعمال العدائية منهم أو تهجيرهم، والمستوطنون هم الرابحون في الحالتين.

لقد تحول الاحتكاك الدائم بين المستوطنين الإسرائيليين والقوات المكلفة بحمايتهم من جهة، وأهل فلسطين والمقاومة من جهة، إلى دائرة مغلقة لا فكاك منها، إذ تتخذ إسرائيل وقائع العنف ذريعة للتوسع في مشروعاتها الاستيطانية، وهي المشروعات التي أدت إلى العنف في المقام الأول. فالهجوم الذي شنه الشقيقان محمد وكاظم زواهرة على حاجز عسكري بالقرب من مستوطنة معاليه أدوميم وخلف قتيلا إسرائيليا و8 مصابين جاء الرد عليه بإعلان وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش بدء التخطيط لبناء 3300 وحدة استيطانية جديدة بالضفة الغربية في معاليه أدوميم ومستوطنات أخرى. وغرد سموتريتش على منصة إكس قائلا: “يعرف أعداؤنا أن أي ضرر يقع علينا سيؤدي إلى المزيد من البناء والمزيد من التطوير وتشديد قبضتنا على أنحاء البلاد”.

 

في انتظار “تسونامي” لا يجيء

قوبل إعلان سموتريتش بانتقادات دولية واسعة، وفي مقدمتها تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن التوسع في بناء المستوطنات “لا يتفق” مع القانون الدولي. وتوالت تصريحات المنظمات الدولية ووزارات الخارجية في الشرق والغرب على حد سواء لتعكس الإجماع الدولي المستمر منذ عقود على رفض السياسات الاستيطانية على أراضي محتلة، وهو إجماع نادر الحدوث على الساحة الدولية ويوضح أن مشروع إسرائيل الاستيطاني لا يمكن الدفاع عنه بحجج قانونية متماسكة. بل إن الولايات المتحدة بدأت فرض عقوبات على عدد من المستوطنين المتورطين في أعمال العنف، وتبعتها دول غربية أخرى.

لكن هذا الشجب والتنديد لن يتعدى كونه لحنا دبلوماسيا يتغنى به وزير خارجية هنا أو مندوب أممي هناك، ولن يكون له تأثير فعلي خارج قاعات المباحثات الثنائية وأروقة الأمم المتحدة، ما لم تتوافر حوافز حقيقية تشجع اللاعبين الدوليين على الوقوف في وجه إسرائيل لإيقاف المشروع الاستيطاني. ويجب أن نقر بحقيقة أن مسألة الاستيطان ليست نقطة فاصلة في علاقات إسرائيل الثنائية التجارية أو الدبلوماسية، وليس لها أي تأثير ملموس في مسار الانتخابات الداخلية في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، فضلا عن أن تهدد اتفاقيات السلام بين إسرائيل وجيرانها. وقد حذر إيهود باراك عام 2011، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها، من “تسونامي دبلوماسي” ستواجهه إسرائيل إذا وصلت عملية السلام مع الفلسطينيين إلى طريق مسدود. والآن لم تعد تحذيراته إلا مادة للتندر والاستهزاء من جانب اليمين الإسرائيلي الذي تجاهل كل التصريحات المماثلة من التيارات الأقل تشددا في إسرائيل والقوى الدولية المطالبة بالالتزام بالأعراف والمواثيق الدولية، من دون أي عواقب تذكر.

لقد شارك دانيال ليفي، مدير مركز أبحاث الشرق الأوسط الأميركي وأحد أبرز الأصوات المعارضة للمشروع الاستيطاني، في مناظرة أقيمت مطلع عام 2013 تحمل عنوان “هل تدمر إسرائيل نفسها بسياساتها الاستيطانية؟”. وشبّه ليفي هوية الدولة الإسرائيلية بمثلّث: ضلعه الأول الديمقراطية (الفعلية لا الشكلية)، وضلعه الثاني الهوية اليهودية، وضلعه الثالث السيادة على جميع الأراضي من النهر إلى البحر. وقال إن إسرائيل عليها اختيار ضلعين فقط من الثلاثة: فهي إما أن تكون دولة تتبنى القيم والمبادئ الديمقراطية بأغلبية يهودية، وحينها سيتعين عليها إنهاء احتلالها للضفة الغربية وحصارها لغزة والإقرار بحق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، وإما أن تكون دولة ديمقراطية على كل أراضي فلسطين التاريخية، وحينها ستخسر هويتها اليهودية بحصول ملايين المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة واللاجئين بالخارج على المواطنة الكاملة، وتساويهم في الحقوق والحريات مع مواطنيها اليهود (حتى إن تخلى اللاجئون الفلسطينيون عن حق العودة، فستظل نسبة الفلسطينيين الموجودين على الأرض 40% تقريبا من إجمالي سكان الدولة الواحدة).

أما السيناريو الثالث فهو دولة يهودية محتلة تبسط سيطرتها الأمنية الغاشمة على الأراضي وسكانها الفلسطينيين وتحرمهم من حقوق التصويت وتُضيِّق على حرية الحركة والعمل والملكية، وتفرض تغيرات ديموغرافية بالقوة عبر توطين اليهود وتهجير الفلسطينيين، لكن تسميتها دولة ديمقراطية في هذه الحالة تخالف المنطق بالكلية، فضلا عن اعتبارها دولة راسخة آمنة بينما تتآكل مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون داخلها، وتتفاقم حدة التوترات الإقليمية والانعزال الدولي خارجها. وقد وقعت تحذيرات ليفي على الآذان الصماء لمناظريه، وكانت حجتهم بسيطة للغاية (ومنطقية): لقد مضينا قدما في سياساتنا الاستيطانية، ولم يأت ما توعدتمونا به من عزلة دولية وغضب عربي. وقعنا اتفاقيتي سلام مع مصر والأردن وست اتفاقيات مع منظمة التحرير الفلسطينية ولم تشترط أي جهة إيقاف المشروع الاستيطاني من أجل التوقيع.

وبعد مرور أحد عشر عاما على تلك المناظرة، لا تزيد الأحداث الراهنة الإسرائيليين إلا إيمانا بأن عواقب سياساتهم المتطرفة لن تأتي أبدا. يخرج قادة الغرب بمناسبة وبدون مناسبة ليعلنوا دعمهم التام دون قيد أو شرط لإسرائيل، ويتنافس المرشحان في الانتخابات الرئاسية القادمة للولايات المتحدة في أيهما سيطلق يد إسرائيل أكثر في جهودها لاستئصال حماس والمقاومة رغم التكلفة غير المسبوقة في أرواح المدنيين الفلسطينيين. ويستمر التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في الضفة من دون عوائق، في حين تنأى دول المنطقة كافة عن التصعيد ضد  إسرائيل ولو بقطع أو تجميد العلاقات الدبلوماسية.

لهذا السبب، لا يمكن وصف التعويل على الردود الدولية لإيقاف استيطان غزة إلا بأنه ضرب من السذاجة. فنحن نشهد تقاعس المجتمع الدولي عن حشد الزخم الكافي لإيقاف الإبادة الجماعية لسكان غزة أو حتى منع إسرائيل من استخدام الجوع سلاحا لعقاب المدنيين، حتى وصلنا إلى مرحلة يموت فيها الفلسطينيون أطفالا ونساء وشيوخا بفعل الجفاف وقلة التغذية. سيكون من العجيب في هذا السياق أن ينتفض المجتمع الدولي عند زرع المستوطنين في القطاع، أو أن يعتبر بجدية أن استيطان غزة خطٌّ أحمر، رغم أنه يعود بعجلة التاريخ عقدين كاملين إلى الوراء.

——————————————————————–

هوامش:

** الفورمالدهيد هو مركب عضوي يُستخدم في حفظ الأنسجة الميتة والعينات المخبرية، والمقصود في هذا السياق أن خطة فك الارتباط كانت مناورة لتجميد أي عملية سياسية للمطالبة بحقوق الفلسطينيين.

[ad_2]

Source link